فصل: تفسير الآية رقم (104):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (104):

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
و{أَلَمْ يعلموا} مكونة من ثلاث كلمات هي: همزة استفهام، (لم) حرف نفي ، و(يعلم) وهو فعل. فهل يريد الله هنا ان ينفي عنهم العلم أم يقرر لهم العلم؟ لقد جاء سبحانه بهمزة يسمونها(همزة الاستفهام الإنكاري) والإنكار نفي، فإذا دخل نفي على نفي فهو إثبات، أي:(فليعلموا) .
ولماذا لم يأت بالمسألة كأمر؟ نقول: إن الحق حين يعرضها معرض الاستفهام فهو واثق من أن المجيب لا يجيب إلا بهذا، وبدلاً من أن يكون الأمر إخباراً من الله، يكون إقراراً من السامع.
{أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} لماذا جاء الحق بكلمة {هُوَ}، وكان يستطيع سبحانه أن يقول:(ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة) ولن يختل الأسلوب؟
أقول: لقد شاء الحق أن يأتي بضمير الفصل، مثلما نقول: فلان يستطيع أن يفعل لك كذا. وهذا القول لا يمنع أن غيره يستطيع إنجاز نفس العمل، لكن حين تقول: فلان هو الذي يستطيع أن ينجز لك كذا. فهذا يعني أنه لا يوجد غيره. وهذا هو ضمير الفصل الذي يعني الاختصاص والقصر ويمنع المشاركة.
لذلك قال الحق: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة...} [التوبة: 104].
وهل كانت هناك مظنة أن أحداً غير الله يقبل التوبة؟ لا. بل الكل يعلم أننا نتوب إلى الله، ولا نتوب إلى رسول الله. ونحن إذا استعرضنا أساليب القرآن، وجدنا أن ضمير الفصل أو ضمير الاختصاص هو الذي يمنع المشاركة فيما بعدها لغيرها؛ وهو واضح في قصة سيدنا إبراهيم حين قال: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 70-77].
ولم يقل سيدنا إبراهيم: (إنهم أعداء) ، بل جمعهم كلهم في عصبة واحدة وقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي}.
و{إِنَّهُمْ}- كما نعلم- جماعة، ثم يقول بعدها {عَدُوٌّ} وهو مفرد، فجمعهم سيدنا إبراهيم وكأنهم شيءٌ واحد. وكان بعضٌ من قوم إبراهيم يعبدون إلهاً منفرداً، وجماعة أخرى يعبدون الأصنام ويقولون: إنهم شركاء للإله. إذن: كانت ألوان العبادة في قوم إبراهيم عليه السلام تتمثل في نوعين اثنين.
ولما كان هناك من يعبدون الله ومعه شركاء، فقول إبراهيم قد يُفسر على أن الله داخل في العداوة؛ لذلك استثنى سيدنا إبراهيمُ وقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين}، أي: أن الله سبحانه ليس عَدُوّا لإبراهيم عليه السلام، وإنما العداوة مقصورة على الأصنام.
أما إن كان قومه يعبدون آلهة دون الله، أي: لا يعبدون الله، لم يكن إبراهيم ليستثنى.
والاستثناء هنا دليل على أن بعضاً من قومه هم الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى...} [الزمر: 3].
وهكذا تبرأ سيدنا إبراهيم عليه السلام من الشركاء فقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} وهذا كلام دقيق محسوب. وأضاف: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78].
ولم يقل: (الذي خلقتني يهديني)، بل ترك (خلقني) بدون (هو) وخَصَّ الله سبحانه وحده بالهداية حين قال: {فَهُوَ يَهْدِينِ}؛ لأن (هو) لا تأتي إلا عند مظنة أنك ترى شريكاً له، أما مسألة الخلق فلا أحدٌ يدّعي أنه خلق أحداً. فالخلق لا يُدَّعى، ولذلك لم يقل (الذي هو خلقني).
والحق سبحانه هو القائل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله...} [الزخرف: 87].
فليس هناك خالق إلا هو سبحانه. إذن: فالأمر الذي لا يقول به أحد غير الله لا يأتي فيه الضمير. لكن الأمر الذي يأتي فيه واحد مع الله، فهو يخصِّص ب (هو) تأكيداً على تخصيصه لله وحده {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} فليس لأحد أن يُدخل أنفه في هذه المسألة؛ لأن أحداً لم يدّع أنه خلق أحداً، فمجيء الاختصاص- إذن- كان في مجال الهداية بمنهج الحق، لا بقوانين من الخلق. فمن الممكن أن يقول بشر: أنا أضع القوانين التي تسعد البشر، وتنفع المجتمع، وتقضي على آفاته، ونقول: لا، إن الذي خلقنا هو وحده سبحانه الذي يهدينا بقوانينه.
إذن: فما لا يُدَّعى فلا تأتي فيه(هو)، أما ما يمكن أن يُدَّعى فتأتي فيه(هو). وقوله سبحانه: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79].
وجاء هنا أيضاً بضمير الفصل؛ لأن الإنسان قد يرى والده وهو يأتي له بالطعام والشراب فيظن أن الأب شريك لله؛ لذلك جاء ب {هُوَ}، فأنت إن نسبت كل رزق يأتي به أبوك، لانتهيت إلى مالم يأتي به الأب؛ لأن كل شيء فيه سببٌ للبشر ينتهي مإلى ماليس للبشر فيه أسباب، فكل شيء من الله؛ لذلك قال سيدنا إبراهيم: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79-80].
وخصص الشفاء أيضاً؛ حتى لا يظن ظان أن الطبيب هو الذي يشفي، وينسى أن الله وحده هو الشافي، أما الطبيب فهو معالج فقط؛ ولذلك تجد أننا قد نأخذ إنساناً لطبيب، فيموت بين يدي الطبيب؛ ولذلك يقول الشاعر عن الموت:
إنْ نَام عنْكَ فَأيُّ طِبٍّ نَافِعٌ ** أوْ لم يَنَمْ فالطِّبَّ مِن أذنَابِه

فقد يعطي الطبيب دواءً للمريض، فيموت بسببه هذا المريض. وجاء سيدنا إبراهيم بالقصر في الشفاء لله؛ حتى لا يظن أحد أن الشفاء في يد أخرى غير يد الله سبحانه.
ثم يقول سيدنا إبراهيم: {والذي يُمِيتُنِي...} [الشعراء: 81].
ولم يقل: (هو) يميتني؛ لأن الموت مسألة تخص الحق وحده، وقد يقول قائل: كان يجب أن يقول: (هو يمتني)، ونقول: انتبه إلى أن إلا بنقض البنية، ويضيف الحق على لسان سيدنا إبراهيم: {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81].
وأيضاً لم يقل: (هو يحييني)؛ لأن هذا أمر خارج عن أي توهم للشركة فيه، فقد جاء ب (هو) في الأمور التي قد يُظن فيها الشركة، وهو كلام بالميزان: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82].
لم يأت أيضاً ب (هو)؛ لأن المغفرة لا يملكها إلا الله.
إذن فكل أمر معلوم أنه لا يشارَك فيه جاء بدون (هو)، وكل ما يمكن أن يُدَّعى أن فيه شركة يجيء ب (هو).
وهنا يقول الحق: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} وظاهر الأمر أن يقال: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة (من) عبادة، ولكنه ترك (من) وجاء ب (عن). والبعض يقولون: إن الحروف تنوب عن بعضها، فتأتي (من) بدلاً من (عن). ونقول: لا، إنه كلام الحق سبحانه وتعالى ولا حرف فيه يغني عن حرف آخر؛ لأن معنى التوبة، أن ذنباً قد حدث، واستوجب المذنب العقوبة، فإذا قَبل الله التوبة، فقد تجاوز الله عن العقوبة؛ ولذلك جاء القول من الحق محدداً: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} أي: متجاوزاً بقبول التوبة عن العقوبة.
وهكذا جاءت (عن) بمعناها؛ لأنه سبحانه هو الذي قَبِل التوبة، وهو الذي تجاوز عن العقوبة.
ثم يقول سبحانه: {وَيَأْخُذُ الصدقات} صحيح أن الله هو الذي قال للرسول: {خُذْ} ولكن الرسول هو مناول ليد الله فقط، و(يأخذ) هنا معناها (يتقبل) واقرأ قول الحق: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتَاهُمْ رَبُّهُمْ...} [الذاريات: 15-16].
أي: متلقين ما آتاهم الله. ومثال ذلك ما يُروى عن السيدة فاطمة حينما دخلا عليها سيدنا رسول الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهماً، والدرهم عملة من فضة. والفضة من المعادن التي لا تصدأ، والفضة على أصلها تكون لينة لذلك يخلطونها بمعدن آخر يكسبها شيئاً من الصلابة. والمعدن الذي يعطي الصلابة هو الذي يتأكسد؛ فتصدأ الفضة؛ لذلك أخذت سيدتنا فاطمة تجلو الدرهم. فلما دخل عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألها: ما هذا؟ قالت: إنه درهم. واستفسر منها لماذا تجلو الدرهم؟ فقالت: كأني رأيت أن أتصدق به، وأعلم أن الصدقة قبل أن تقع في يد الفقير تقع في يد الله فأنا أحب أن تكون لامعة.
فعلت سيدتنا فاطمة ذلك؛ لأنها تعلم أن الله وحده هو الذي يأخذ الصدقة.
{أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}. كل هذه الآية نفي لمظنة أن يتشككوا إذا فعلوا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ رسول الله الصدقات، فإن توبتهم قد قُبلَتْ، ولكن الذي يقبل التوبة هو الله، والذي يأخُذ الصدقات هو الله؛ لأنه هو التواب الرحيم؛ لذلك جاء قول الحق من بعد ذلك: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله...}.

.تفسير الآية رقم (105):

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
إذن: هم أعلنوا التوبة بعد أن اعترفوا بذنوبهم، وخلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وربطوا أنفسهم في سواري المسجد، وقالوا: لا نحل انفسنا حتى يحلّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: خذ من أموالنا صدقة لتطهرنا؛ كل هذا جعل هناك فاصلاً بني ماضٍ ندموا عليه، ومستقبل يستأنفونه قد ولدت الآن. وبدأت صفحة جديدة، فهل أنتم ستسيرون على مقتضى هذه التوبة أم لا؟
ولا تظنوا أن أموركم ستكون في الخفية بل ستكون في العلن أيضاً، أم أموركم الخفية فسيعلمها الله؛ لذلك قال: {فَسَيَرَى الله}. أما الأمور التي تحتاج لفطنة النبوة فالرسول صلى الله عليه وسلم سيراها بنوره في سلوككم. أما الأمور الظاهرة الأخرى فسيراها {المؤمنون}.
نحن هنا أمام ثلاثة أعمال: عمل يراه المؤمنون جميعاً، فالتزموا بهذا المنهج حتى يشهد لكم المؤمنون بما يرون من أعمالكم، وإياكم أن تخادعوا المؤمنين؛ لأن رسول الله بفطنته ونورانيته وصفائه وشفافيته سيعرف الخديعة، أما إن كانت المسألة قد تتعمَّى على المؤمنين وعلى الرسول، فالله هو الذي يعلم.
{وَقُلِ اعملوا} أي: اعملوا عملاً جديداً يناسب اعترافكم بذنوبكم، ويناسب إعلانكم التوبة، ويناسب أنكم ربطتم أنفسكم في المسجد، ويناسب أنكم تصدقتم بالأموال، عمل تستأنفون به حياتكم بصفحة جديدة، واعلموا أننا سنرقب عملكم، الله يرقبه فيما لا يعلمه البشر، وهو النيَّات، ورسول الله يعلمه فيما يطابق نورانيته وإشراقه، والمؤمنون يعلمونه في عاديات الأمور.
وهذه الرؤية من الله ومن الرسول ومن المؤمنين لا تكون لها قيمة إلا إذا ترتب عليها الجزاء ثواباً أو عقاباً، فهي ليست مجرد رؤية، بل إن الرائي يملك أن يثيب أو أن يعاقب. وأنكم راجعون إليه لا محالة. وإذا كنتم في الدنيا تعيشون في الأسباب التي يعيش فيها الكافر والمؤمن، ويعيش فيها الطائع والعاصي، فهناك عالم الغيب الذي يملكه الله وحده: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
إذن: سيعامل التائب معاملة جديدة، وما دام قد تاب، فلعله بسبب الغفلة التي طرأت عليه فأذنب؛ غفل عن اليوم الآخر، فيحتاج إلى تجديد التذكير بالإيمان.
لذلك قال: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون}.
قوله سبحانه:(فَسَيَرَى) ذكر الفعل مرة واحدة، فالرؤية واحدة ملتحمة بعضها ببعض لتروا هل أنتم على المنهج أم لا؟
{وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} أما علم الغيب فانفرد به الله سبحانه، وأما عالم الشهادة فالرسول سوف يعلم عنكم أشياء، وكذلك المؤمنون يعلمون أشياء، وربنا عالم بالكل. وسبحانه لا يجازي على مجرد العلم، بل بنية كل إنسان بما فعل، وسبحانه يقول: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14].
ولذلك يُنهي الحق هذه الآية بقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم، وربطوا أنفسهم في السواري، وتصدقوا بالأموال، وأعطى الله فيهم حكمه بأن جعل رسول الله هو من يحل وثاقهم من السواري، وقبل منهم الصدقات؛ ليسوا وحدهم، فهناك أناس آخرون فعلوا نفس الأمر، لكنهم لم يربطوا أنفسهم في سواري المسجد، ولا اعترفوا بذنوبهم؛ لذلك يجيء قوله الحق: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ...}.

.تفسير الآية رقم (106):

{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
والمقصودون بهذه الآية هم الثلاثة الذين سيخصهم القرآن بآيات خاصة يقول فيها: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118].
وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. وهم قد تخلفوا أيضاً عن غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر في التخلف أبداً، فكل واحد يملك راحلته، وعندهم مالهم، وعندهم كل شيء، وقد قصّ واحد منهم حكايته، وبيّن لنا أنه لم يكن له عذر: (وما كنت في يوم من الأيام أقدر على المال والراحلة مني في تلك الغزوة، كنت أقول: أتجهز غداً، ويأتي الغد ولا أتجهز، حتى أنفصل الركب، فقلت ألحق بهم، ولم ألحق بهم).
هؤلاء هم الثلاثة الذين جاء فيهم القول: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله}
و{مُرْجَوْنَ} أو (مرجَئون) والإرجاء هو التأخير. أي: أن الحكم فيهم لم يظهر بعد؛ لأن الله يريد أن يبين للناس أمراً، وخاصَّةً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينشئ في الدولة الإسلامية سجناً يُعزَل فيه المجرم؛ وهذا لحكمة، فكونك تأخذ المجرم وتعزله عن المجتمع وتحبسه في مكان فهذا جائز. لكن النكال في أن تدعه طليقاً، وتسجن المجتمع عنه.
وهكذا تتجلى عظمة الإيمان؛ لذلك أصدر صلى الله عليه وسلم أمراً بأن يقاطعهم الناس، فلا يكلمهم أحد، ولا يسأل عنهم أحد، حتى اقرباؤهم ولا يختلط بهم أحد في السوق أو في المسجد.
وكان أحدهم يتعمد أن يصلي قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم ويختلس النظرات ليرى هل ينظر النبي له أم لا؟ ثم يذهب لبيت ابن عمه ليتسلق السور، ويقول له: أتعلم أنني أحب الله ورسوله؟ فيرد عليه: الله ورسوله أعلم. وهكذا عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع عنهم، ولم يعزلهم عن المجتمع. وكذلك عزلهم عن زوجاتهم، وهو الأمر الذي يصعب التحكم فيه. وحذر صلى الله عليه وسلم زوجاتهم أن يقربوهم إلى أن يأتي الله بأمره.
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ}
هذا بالنسبة لنا- إما أن يعذبهم وإما أن يتوب عليهم. لكن الحق سبحانه وحده هو الذي يعلم مصير كل واحد منهم.
فالتشكيك إذن هو بالنسبة لنا؛ لأنهم مُرْجَوْن لأمر الله ولم يبت فيهم بحكم لا إلى النار ولا إلى الجنة، ولم يبَت فيهم بالعفو. أما أمرهم فهو معلوم له سبحانه إما أن يعذب وإما أن يتوب؛ لأن كل حكم من الله له ميعاد يولد فيه، ولكل ميلاد حكمة، وهناك قوم عجّل الله بالحكم فيهم، وقوم أخّر الله الحكم فيهم؛ ليصفى الموقف تصفية تربية، لهم في ذاتهم، ولمن يشهدونهم.
وقد استمرت هذه المسألة أكثر من خمسين يوماً؛ ليتأدبوا الأدب الذي يؤدبهم به المجتمع الإيماني، فلم يشأ الله أن يبين الحكم حتى يستوفي هذا التأديب.
وإذا أُدِّب هؤلاء، فإن تأديبهم سيكون على مَرْأى ومسمع من جميع الناس، فيأخذون الأسوة من هذا التأديب.
ولو أن الله عجّل بالحكم، لمرّت المسألة بغير تأديب للمعتذرين كذباً وغيرهم، فقال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} وما دام سبحانه قد حكم هنا بأنهم مؤخَّرون لأمر الله، فليس لنا أن نتعجل قصتهم، إلى أن يأتي قول الله فيهم: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ...} [التوبة: 118].
وأراد الله أن يقص لنا قصة أخرى من أحوالهم، فقال: {والذين اتخذوا مَسْجِداً...}.